الحمد
لله الذي منّ على عباده بالثبات على الطاعات، وصرف قلوبهم إلى استدامة الخيرات،
والصلاةُ والسلام على إمام المؤمنين والمؤمنات، وأشرف المخلوقات، نبينا محمد، وعلى
آله وأصحابه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما
بعد، فإن المسلم ينشط للعبادة وتنشرح نفسه لها في مواسم الطاعات كرمضان وأمثاله،
ولكن قد يصيبه الفتور، فيتناقص ما كان عليه من الاجتهاد فيها والمسارعة إليها، وقد
يهمل بعض الناس ما كانوا يحافظون عليه من طاعات بالكلية، وهو أمر لا يستغرب،
فالإيمان يزيد أحيانا وينقص أحيانا، والقلوب تتقلب. وقد أمرنا الله تعالى بالثبات
على الطاعات حتى الممات، فقال: ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾، وعلمنا أن نسأله
دوام الهداية في سورة الفاتحة عدة مرات: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾. ونبهنا النبي
عليه السلام إلى فضل العمل الصالح الدائم فقال: "أحب الأعمال إلى الله أدومها
وإن قلّ". وقد وعد الله تعالى عباده المتمسكين بكلمة الإيمان المستقرةِ في
الضمائر، المثمرةِ للعمل الصالح، بأن يثبتهم في الدنيا أمام الفتن والمحن، وفي
الآخرة عند السؤال في القبر ويوم الحشر، فقال: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ
ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ
اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾. وبشر الذين استقاموا على
طاعته بالأمن في الدنيا والآخرة فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وثمة وسائل تعين المسلم
على الثبات على الدين، منها:
1
- تلاوة القرآن الكريم بشكل يومي: فالقرآن شفاء، وهدى، ونور، ورحمة، وهو يزكي
النفس ويغرس فيها الإيمان، وينير
البصيرة، ويمدها بالقوة التي تتقوى بها أمام الفتن، وقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾.
2 – الإكثار من ذكر الله: فبذكره تطمئن
القلوب، وتتقوى صلتها بالله، وتنشط للعمل الصالح، وقد قرن الله بين الثبات والذكر
في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا
إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ﴾، وحين سأل الأعرابي النبي عليه السلام أن يدله على شيء يتشبث به قال
له: "لا يزال لسانُك رطبا من ذكر الله".
3
– التأمل في قصص الأنبياء وحياة الصحابة والتابعين: فقد ضربوا أروع الأمثال في
الثبات على الدين، وحياتهم تتضمن كثيرا من العبر والفوائد، وقد قص الله علينا في
كتابه طائفة من أخبار الأنبياء والسابقين، لتثبيت أفئدة المؤمنين كما قال تعالى: ﴿وَكُلًّا
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، بالإضافة
إلى أنهم قدوة لنا نقتدي بهم في سائر شؤون حياتنا مصداقا لقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾.
4 - تنويع الطاعات والمسارعة إليها والتدرج
في الالتزام بها: فمن رحمة الله عز وجل بنا أن نوع لنا العبادات لتأخذ النفس بما
تستطيع منها، فمنها عبادات بدنية، ومالية، وقولية، وقلبية، وقد أمر الله عز وجل
بالمسابقة إليها جميعا، وعدم التفريط في شيء منها، فقال: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾، وأرشدنا
النبي إلى التدرج في الطاعات فقال: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه
برفق"، فيكون البدء بالفرائض، ثم السنن المؤكدة، ثم النوافل، وبذلك يثبت
المسلم على الطاعة، ولا يقطع الملل طريق العبادة عليه، قال تعالى: ﴿وَلَوْ
أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ
تَثْبِيتًا﴾.
5
- محاسبة النفس: قال عمر رضي الله عنه: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا فإنه
أهون لحسابكم"، وإذا حاسب الإنسان نفسه على تقصيره في الطاعات، حاول استدراك
ما فاته وجبر ما قصر فيه، ووفِّق إلى الثبات عليها.
6
– مصاحبة الأخيار والصالحين، ومجالسة العلماء العاملين والدعاة المؤمنين: فهم يُذكّرونك
إذا نسيت، ويعلمونك إذا جهلت، وينصحونك إذا أخطأت، وفي الحديث: "المرء على دين
خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". وفي المسجد ستلقى الصالحين، وتجالس التالين
والذاكرين، وتسمع للدعاة الناصحين، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
وقد قال ابن عطاء الله في حِكَمه: "لا
تصحب من لا يُنهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله"، فإن ألجأتك حاجةٌ إلى
الاجتماع بمن لم يكن صالحا فاجعل ذلك في أضيق الحدود.
7
- من أعظم وسائل الثبات الاجتهاد في الدعاء بالتثبيت: فلا هادي إلا الله، ولا ثبات
إلا بمعونته، وقد خاطب الله نبيه فقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾، وأخبرنا النبي عليه السلام أن القلوب بين
أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يقلبها كيف يشاء"، ولذلك"كان رسول
الله يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، وكان يدعو أيضا
فيقول: اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم
يسألونه التثبيت على الهداية ويقولون: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنَا﴾.
8 - قصر الأمل وتذكر الموت: فالحياة
قصيرة، والموت حق، وقد يأتيك بغتة، ﴿وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي
أرض تموت﴾، والدنيا رحلة لها نهاية مهما طالت، فاحذر أن يختم لك بعمل أهل النار
فتدخلها، وعليك أن تجعل يومك وكأنه آخر يوم لك في الدنيا، ثم تبادر إلى العمل
الصالح استعدادا للقاء الله، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر فقال له:
"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا
تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، و خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
9
- تذكر منازل الآخرة والتطلع إلى ما عند الله من النعيم المقيم: فالذي يوقن بعظم
الثواب تهون عليه مشقة العمل، وكلما تذكر المسلم أن الجنة أعدت للمتقين، وأن الفوز
بها إنما هو للمؤمنين العاملين بالصالحات، سارع إلى الخيرات واجتهد في الطاعات حتى
آخرِ لحظة من حياته. واسمعوا إلى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان نعيم
الجنة: "سأل موسى ربه: ما أدنى أهلِ الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخِل
أهلُ الجنةِ الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب: كيف وقد نزل الناس
منازلهم، وأخذوا أخذاتِهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثلُ مُلْك مَلِكٍ من ملوك
الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي. فيقول: لك ذلك ومثلُه ومثلُه ومثلُه ومثلُه، فقال في
الخامسة: رضيت ربي. فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسُك ولذَّتْ عينُك.
فيقول: رضيت رب. قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتُ، غرستُ كرامتَهم
بيدي، وختمتُ عليها، فلم تر عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر، قال:
ومصداقه في كتاب الله تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ ﴾".
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق