الأربعاء، 4 مارس 2015

فضل اتباع الجنائز



الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلى على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، وقائد الغزّ الميامين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
حديثنا اليوم عن آخر حق ذكره في الحديث الذي ذكرناه سابقا، ألا وهو اتباع الجنائز، وقد جعله النبي حقا من حقوق المسلم على المسلم، فقال: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)). وحمل الجنازة واتبا
عها كدفنها والصلاة عليها وغسلها، كل هذه من فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، وإن تركت فإن الإثم على الجميع. ولا شك انه من العمل الصالح الذي يثاب المسلم عليه، قال رسول الله : "من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر أنا، فقال رسول الله : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة". قال القاضي عياض: معناه دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال.
واتباع الجنائز على مرتبتين: الأولى: اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها. والثانية: اتباعها من عند أهلها حتى يفرغ من دفنها.ومما لا شك فيه أن المرتبة الثانية أفضل من الأولى، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين". ومما لا شك فيه أن هذا الفضل العظيم في اتباع الجنائز إنما هو لمن شهدها لله لا لغيره، محتسبا أجر ذلك على الله، كما جاء في رواية أخرى عنه عليه الصلاة والسلام: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلّى عليها ويُفرَغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يَرجع بقيراط".
وهذا الاستحباب إنما هو للرجال دون النساء، أما النساء فيكره لهن اتباع الجنائز، لأنهن منهيات نهي تنزيه كما قالت أم عطية رضي الله عنها: "نهانا النبي عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا". وإنما كان اتباع الجنائز مكروها لهن لما قد يقع منهن من الصياح والنياحة ولطم الخدود وإزعاج الميت وتألم الحي، وكل ذلك مما لا يجوز. قال فقهاء المالكية: يجوز خروج المرأة الكبيرة في السن للجنازة مطلقا، وكذا الشابة التي لا تخشى فتنتها، لجنازة من عظمت مصيبته عليها، كأب، وأم، وزوج، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، أما من تخشى فتنتها فيحرم خروجها مطلقا.
وفي اتّباعك للجنازة مواساةٌ لأولادِ الميت وأقرِبائه في مصابهم، وتضميدٌ لجراحهم، وتعاطف معهم فيما ألمّ بهم، و فيه كذلك عظة لك، وتذكرة لنفسك بأنّك كما شيّعت اليوم جنازة أخيك، فغدًا سيشيِّع غيرُك جنازتك، وحين الميت الذي كان حال حياته قويًّا شديدًا، ينزل في هذه حفرَة القبر، ويهيل عليه أقربُ النّاس وأحبّهم إليه التّراب، ويدَعونه في هذا اللحد، قد فارق أهلَه وماله، وخلا بعمَله الذي قدّمه، إن كان صالحًا فهو في روضة من رياض الجنة، وإن كان غير ذلك كان في حفرة من حفر النار. حينها تعلَم هوان الدّنيا وحقارتها، وتستعدّ للقَاء الله، وتتهيَّأ لذلك الموقف العظيم، وتسأل اللهَ الثباتَ وحسن الختام. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عودوا المريض، واتبعوا الجنائز تذكرْكُم الآخرة)).
وينبغي أن يكثر الذين يصلون على الميت لأنه كلما كثروا كان أنفع بإذن الله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة يشفعون له إلا شفعوا فيه" وفي رواية: "إلا غفر له". وقد يغفر له وإن كان العدد أقل من ذلك إذا كانوا مسلمين موحدين حقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله إلا شفعهم الله فيه)).
ومتبع الجنازة بالخيار في المشي أمامها وخلفها، وعن جنبيها،  إذا كان ماشيا، أما إن كانوا راكبا فإنه يسير خلف الجنازة، لقول النبي عليه السلام: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، خلفها وأمامها، عن يمينها وعن يسارها، قريباً منها". وقد روى أنس أن النبي وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها لأنه مقتضى قوله: "اتبعوا الجنائز". ويؤيده قول علي رضي الله عنه: (المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذا). إلا أن يكون خلفها نساء فالمشي أمامها أحسن.
ومن السنة في تشييع الجنازة الإسراع بها إسراعاً وسطا بين البطء والعجلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحة فخير تقدمونها، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم". ولكن لا ينبغي أن نجري به، فقد يهتز الميت على النعش، ويخفق رأسه، ويضطرب بدنه، ويتمخض فؤاده، وربما كان ذلك سببا إلى خروج شيء من الفضلات من جوفه إلى فمه أو دبره، فيذهب المعنى الذي لأجله أمرنا بتغسيل الميت وهو الإكرام للقاء الملائكة.
ويسنّ في حق المتبع للجنازة أن يكون خاشعاً متفكراً في مصيره متعظاً بالموت وبما يصير إليه الميت ولا يتحدث في أحاديث الدنيا ولا يضحك. وقد رأى بعض السلف الصالح رجلاً يضحك في جنازة فقال: أتضحك وأنت تتبع الجنازة؟ لا كلمتك أبداً.
وفي المقابل يكره اتباع الجنازة بمجامر أو صوت نياحة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتبع الجنازة بنار ولا صوت"، ولما أخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن أرقم عن رسول الله مرفوعا: ((إن الله عز وجل يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة)) ولهذا قرر المحققون من العلماء بأن السنة في السير مع الجنازة ألا يكون معها رفع صوت ولو بالذكر والقرآن،  قال الإمام النووي رحمه الله: "واعلم أن الصواب والمختار ما كان عليه السلف -رضوان الله عليهم- من السكون والسكوت في حال السير مع الجنازة؛ فلا ترفع أصوات بقراءة ولا بذكر ولا غير ذلك، والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره، وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة".
وقال ابن الحاج في كتابه المدخل: "فالسنة أن لا يتكلم أحد مع أحد؛ لأن الكلام في هذا المحل لغير ضرورة شرعية بدعة؛ إذ إنهم ذاهبون للشفاعة يرجون قبولها، فيشتغلون بما هم إليه صائرون، فيكون كل واحد منهم مشتغلا في نفسه بالاعتبار وبالدعاء للميت أو لنفسه وللمسلمين أو لجميع ذلك كله.
وقد كان السلف - رضي الله عنهم - في حضور جنائزهم يتناكر بعضهم من بعض...حتى إذا رجعوا للبلد تعارفوا على عادتهم في ودهم الشرعي. ثم العجب من بعضهم في كونهم يسبقون الجنازة ويجلسون ينتظرونها ويتحدثون إذ ذاك في التجارات والصنائع وفي محاولة أمور الدنيا. ومن كان على هذه الصفة كيف يرجى قبول شفاعته؟ بل بعضهم يفعل ذلك والميت يقبر في الغالب، بل بعضهم يتضاحكون حين يتكلمون وآخرون يتبسمون وآخرون يستمعون، وكل ذلك مخالف للسنة المطهرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون". إذاً من أراد أن يذكر الله فليذكره في نفسه، فإذا فرغوا من الدفن استحب أن يدعو للميت ويستغفر له؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: {استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل}.ومن الأمور المكروهة في الجنازة الجلوس للمشيع قبل دفنها لما أخرجه الإمام مسلم رسول الله قال: "إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع".

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق